
خلّف تسريب فيديو لمداولات اجتماع لجنة الأخلاقيات التابعة للمجلس الوطني للصحافة، الذي يشرف على هذا القطاع، جدلا واسعا في الفضاء العمومي بسبب ما تضمنه من عبارات سب وقذف في حق بعض الصحافيين والمحامين، ومن تهديد بالتأثير على أحكام القضاء.
الاجتماع كان يدور حول قضية الصحفي حميد المهداوي الذي دخل في نزاع قضائي مع المجلس، بعد رفضه منحه البطاقة المهنية. وقد استطاع الصحفي الحصول على الفيديو، وقام بنشره على قناة “يوتيوب”، فكانت الضجة كبيرة في أوساط الصحافيين والمحامين الذين يرون أن الفيديو يتضمن عبارات “إهانة وتحقير” وقرروا اللجوء إلى القضاء.
قرر المجلس أيضا اللجوء إلى القضاء بدعوى نشر مضمون مداولات سرية، حيث اعتبر أن ما تم نشره هو ” تركيبة منتقاة من أقوال وصور … بهدف الإيقاع بالجمهور في الخطأ والإساءة والتشهير”. وقد قام رئيس المجلس بالاعتذار للمحامين إلى جانب عضو آخر وأوضح أن “نبرة حديثه لم تكن بالهدوء المطلوب خلال الاجتماع”. وفي المقابل، قرر عضو آخر تجميد عضويته “في انتظار معرفة مآلات هذه القضية”.
القضية تطورت وأخذت أبعاداً سياسية. واعتبر وزير التواصل، المهدي بنسعيد، أن الحكومة ليست مسؤولة عما يقع، ولا تريد استرجاع صلاحياتها التي خولتها للمجلس. لأن إنشاءه يعتبر مؤشراً على تطور البلاد، داعيا إلى الابتعاد عن “النقاش حول الأفراد والأشخاص“. وأضاف أن دور الحكومة هو “تقوية هذه المؤسسة على المستوى القانوني” عبر مشروع قانون جديد يعيد تنظيمها.
هذا المشروع يلاقي معارضة كبيرة تعززت مع نشر الفيديو. وقد أصدر عشرات الصحفيين بياناً يطالب بحل مجلس الصحافة وبسحب مشروع القانون الجديد المعروض على البرلمان حاليا. كما قاموا بتنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة الثقافة والتواصل. وتطالب هذه الأصوات رئيس الحكومة بـ “التدخل العاجل لتصحيح وضع غير مسبوق ومختل”.
رهان الانتخاب والتعيين
في تصريح لـDW عربية يرى كريم بوخصاص، أستاذ الصحافة والإعلام، أن “الفيديو المسرب ليس حدثا معزولا، بل تتويجا لمسار سوريالي بدأ عام 2022، حين انتهت الولاية الأولى لمجلس الصحافة بدون تنظيم انتخابات. فتدخلت الحكومة للمرة الأولى لإقرار تمديد استثنائي لمدة 6 أشهر بدعوى تمكين المجلس من تنظيم الانتخابات، وهو ما لم يتحقق”. ويضيف بأن الحكومة عادت لتقدم مشروع قانون لإحداث “لجنة مؤقتة لتدبير شؤون قطاع الصحافة والنشر، بحيث تحل لجنة مشكّلة من 9 أعضاء، 3 منهم مُعينون من طرف رئيس الحكومة، محل مجلس وطني منتخب مكون من 21 عضوا. علما بأن هذا النمط من التعيين من قبل الجهاز التنفيذي يتعارض مع فلسفة التنظيم الذاتي”.
من جهته، قال محمد حجيوي، العضو القيادي بالنقابة الوطنية للصحافة المغربية إن النقابة “طالبت بإنهاء هذا الوضع غير القانوني، ودعت الحكومة إلى ضمان استمرار المرفق إداريا بعيدا عن كل القرارات التي تهم التنظيم الذاتي للمهنة. لكن، مع الأسف، يبدو أن الحكومة لا تنصت إلا لصوت واحد، هو الصوت الذي ظهر في شريط الفيديو المسرب”.
أحزاب المعارضة انتقدت بشدة ما وقع، وطالبت بسحب مشروع القانون الذي صادق عليه مجلس النواب، لكنه بقي معطلا بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان) بسبب تشكيلته النقابية بالأساس.
النائبة فاطمة التامني عن فيدرالية اليسار اعتبرت، في تصريح لـ DW عربية أن الفيديو يشكل “فضيحة كشفت تجاوزات أخلاقية وقانونية واتهامات بتخطيط للتحكم في القطاع“. واعتبرت أن إعلان المجلس عن متابعة المهداوي “بحجة أن تسريب المداولات خرق للقانون والسرية، هي فضيحة أخرى”. وأضافت أنه “لا توجد إشارة إلى امكانية سحب مشروع القانون رغم الضغوط الإعلامية والمهنية والسياسية، لأنه من جانب المسؤولية الأخلاقية والمهنية يجب فتح تحقيقات قضائية وإدارية شفافة بشأن التجاوزات المعلنة وينبغي تعليق التصويت على المشروع إلى حين وضوح نتائج التحقيق.”
وأوضح النائب في البرلمان المغربي عبد الصمد الحيكر عن حزب العدالة والتنمية، لـ DW عربية أن “الحل هو سحب المشروع ومراجعته على أساس الاقتصار على التدابير اللازمة لإعادة انتخاب أعضائه بعيدا عن المنطق الذي جاء به المشروع (مثل رقم معاملات المقاولات الصحافية…)، وأن يكون ذلك على أساس ضمان تمثيل مختلف الفئات المهنية بما فيها الصحافة الجهوية؛ وبما يتوافق مع أحكام الدستور والالتزامات الدولية للمملكة المغربية”.
أزمة واستقطاب داخل المشهد الصحفي
منذ انطلاقته كهيئة للتنظيم الذاتي في عام 2018، واجه مجلس الصحافة صعوبات كبيرة ليقوم بمهامه أمام صعوبات التنظيم وكثرة النزاعات المعروضة على المحاكم. وقد تحول إلى “لجنة مؤقتة” انتهت ولايتها القانونية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وهو ما نتج عنه، حسب أستاذ الصحافة والإعلام كريم بوخصاص “فراغ قانوني لا يُعرف معه على أي سند قانوني ما زالت هذه اللجنة تجتمع وتعقد لقاءات وتصدر بلاغات”. وقد أدت هذه الوضعية إلى استقطاب وتشتت في الجسم المهني مع تعدد نقابات الصحفيين والناشرين، مما زاد من صعوبة الوصول إلى توافقات.
ويرى بوخصاص أن “الصحافة في المغرب تعيش تحديات بنيوية تستدعي تعبئة جدية للمهنيين والمؤسسات على حد سواء. في مقدمة هذه التحديات التحول الرقمي الجارف، بما يفرضه من تغير في أنماط العمل، يضاف إلى ذلك أزمة النموذج الاقتصادي للمقاولات الصحافية، التي تعيش وضعا صعبا يجعل استمرار جزء كبير منها مرهونا بدعم عمومي استثنائي، مع هشاشة تجربة التنظيم الذاتي وتآكل ثقة الجمهور في وسائل الإعلام، مما ينعكس مباشرة على جودة الممارسة الصحفية واستقلاليتها”.
وتقدم الحكومة دعما ماليا كبيرا ومتزايدا للصحافة، خاصة منذ أزمة كوفيد 19 في سياق عام يتميز بأزمة اقتصادية ومهنية. وقد بلغ حجم الدعم 325 مليون درهم (حوالي 32 مليون يورو) في عام 2024. وتقدر مبيعات الصحف الورقية بحوالي 10 آلاف نسخة، مقابل حوالي 300 ألف نسخة قبل 10 سنوات. لا تتوفر معطيات كثيرة حول أرقام الصحافة الإلكترونية بالمغرب، لكن تقرير مؤسسة رويترز/أوكسفورد العالمي لعام 2024 يشير إلى أن 79 بالمئة من المغاربة يتابعون الأخبار عن طريق الأنترنيت (خاصة وسائل التواصل الاجتماعي)، مقابل 41 بالمئة عبر التلفزة، و10 بالمئة عبر الصحف الورقية.
كيف السبيل إلى تجاوز الأزمة؟
بخصوص البدائل الممكنة لتجاوز الأزمة، ترى النائبة فاطمة التامني أن “استغلال هذه الأزمة كفرصة لإعادة التفكير في آليات تنظيم الصحافة بحيث لا تصبح التشريعات وسيلة لتصفية مهنيين أو فرض نفوذ مؤسسات أو رجال أعمال، بل لتعزيز مهنة الصحافة كفضاء عام مستقل، متنوع وحقوقي”. وتدعو إلى “تطبيق ميثاق أخلاقي مهني واضح يتوافق مع المعايير الدولية لحرية التعبير“. في حين، أكد النائب عبد الصمد حيكر أن “البدائل ترتبط اساساً بإعادة الثقة”.
من جهته، يؤكد محمد حجيوي أن “التنظيم الذاتي مكسب أساسي، عكس ما يحاول البعض الترويج له” ويدعو حجيوي إلى “وضع ضمانات قانونية تمنع أي تدخل إداري أو سياسي، مع توسيع صلاحيات المجلس الأخلاقية والمهنية وربطها بآليات مساءلة شفافة، ومراجعة مدونة الصحافة والنشر بما يواكب التحولات الرقمية وتطوير نموذج اقتصادي جديد للقطاع”.
ويؤكد بوخصاص على ضرورة “تقوية المقاولة الصحافية عبر ابتكار نموذج اقتصادي يضمن استدامتها، ولا يجعلها في تبعية دائمة للدعم العمومي. وإصلاح سوق الإعلانات إما عبر قانون منظم، أو على الأقل عبر ميثاق أخلاقي يضمن ألا يخضع توزيع الإعلانات لمنطق الولاءات أو يستعمل كأداة تأثير على الخطوط التحريرية. كما يجب إنقاذ مؤسسة التنظيم الذاتي والحفاظ عليها كمكسب تاريخي للتجربة الصحافية المغربية في المنطقة، عبر إعادة تنظيم الانتخابات وتجديد هياكل المجلس الوطني للصحافة على أسس ديمقراطية” حسب تعبيره.
تحرير: عارف جابو
Source link



