
في أول ديسمبر/ كانون الأول، وجهت شرطة نورنبرغ نداءً عاجلًا جاء فيه: “نود أن نؤكد مجدداً وبشكل قاطع على حظر تحليق الطائرات المسيّرة فوق سوق عيد الميلاد في نورنبرغ”. وجاء هذا التحذير عقب ظهور طائرة مسيّرة بشكل مفاجئ فوق السوق الشهير في قلب المدينة، على الرغم من الحظر الصارم المفروض على تحليق المسيّرات. وتبين أن تلك المسيرة تابعة لمدوّن أراد التقاط “صور جميلة” من الجو، متجاهلاً بذلك اللوائح المعمول بها.
المسيّرات تهدد حركة الملاحة الجوية
وهذه الحادثة انتهت على خير، بعكس حوادث أخرى: فقد تسببت في بداية أكتوبر/ تشرين الأول مسيّرات في شل حركة الملاحة الجوية والطيران في ميونيخ لعدة ساعات، مما أدى إلى تقطع السبل بكثير من المسافرين. وكثيرًا ما تظهر مسيّرات في ألمانيا فوق موانئ بحرية وخطوط سكك حديدية ومنشآت صناعية. بل إنها أيضا تحلق حتى عند المنشآت العسكرية. وكثيرًا ما يشتبه في أنَّ سبب ظهورها هو التجسس لصالح روسيا. ويعتقد وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبرينت (من الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري) أنَّ هذه المسيّرات “تتحكم بها أيضًا قوى معادية”. والتصدي لها عمل معقد: فهي تحلق بسرعة عالية وكثيرًا ما تختفي بسرعة. وغالبًا ما يبقى من غير الواضح مَنْ الذي يتحكم بها.
والآن تتخذ الحكومة الألمانية خطوات تدريجية لمواجهة الانطباع بالعجز، الذي أثارته السلطات أحيانًا، في تعاملها مع هذا التهديد الهجين. وفي بداية ديسمبر/ كانون الأول حصلت الشرطة الألمانية الاتحادية على وحدة خاصة جديدة للتصدي للمسيّرات، مجهَّزة بتقنيات دفاع حديثة. وكذلك يتم تعديل القوانين التي لم تكن تتناول حتى الآن موضوع المسيّرات.
وضمن هذا السياق حصل الجيش الألماني أيضا على مزيد من الصلاحيات: إذ يمكنه في المستقبل استخدام الأسلحة لاعتراض المسيّرات، أي إسقاطها حتى خارج المنشآت العسكرية. ولم يكن يوجد حتى الآن أساس قانوني لذلك. ومن المقرر تغيير ذلك من خلال تعديل قانون أمن الطيران، الذي يناقشه البرلمان الألماني في الوقت الحاضر.
قيود صارمة على عمليات الجيش داخل ألمانيا
لكن في الواقع من المحتمل أن تكون هناك حالات قليلة فقط يمكن فيها للشرطة الاستعانة بقدرات الجيش الألماني. وذلك لأن مهام الشرطة والجيش في ألمانيا منفصلة من حيث المبدأ فصلًا تامًا. وفي حال التعرض لهجوم عسكري بمسيّرات مسلحة، يكون الجيش الألماني هو المسؤول. وعندما تظهر مسيّرات فوق مطار أو محطة طاقة أو مهرجان أكتوبر في ميونيخ، فإنَّ ذلك يقع ضمن اختصاص الشرطة.
الشرطة يمكنها طلب “مساعدة إدارية” من الجيش الألماني، لكن فقط إذا كان من الممكن بذلك منع وقوع حادث خطير. وهذا لأنَّ عمليات الجيش الألماني داخل ألمانيا مسموحة ولأسباب وجيهة فقط ضمن حدود ضيقة جدًا، كما أكدت وزيرة العدل شتيفاني هوبيغ (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، وأضافت أنَّ هذا الوضع يجب أن يبقى كذلك.
مركز لاعتراض المسيّرات تابع للحكومة الاتحادية وحكومات الولايات
وبالتالي فإنَّ اعتراض المسيّرات والتصدي لها يعتبر في المقام الأول من مسؤولية الشرطة، أي سلطات الشرطة في الولايات الألمانية الست عشرة وكذلك الشرطة الاتحادية المسؤولة عن الأمن في المطارات ومحطات القطارات والحدود. ولذلك فإنَّ المسؤوليات موزعة، وهذا يتطلب قدرًا كبيرًا من التنسيق.
وهنا يأتي دور “مركز اعتراض المسيّرات المشترك” (GDAZ) الجديد، الذي افتتحه وزير الداخلية الألماني دوبرينت في برلين في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2025. ومن المقرر أن يتم في هذا المركز اعتبارًا من بداية عام 2026 تجميع المعلومات من الشرطة الاتحادية وشرطة الولايات وأجهزة الاستخبارات والجيش على مدار الساعة، من أجل تكوين صورة عن الوضع. وأوضح وزير الداخلية: “أننا نزيد بذلك السرعة والدقة في مكافحة التهديدات الهجينة والتخريب والاستفزازات الموجهة”.
ولكن هل يكفي تحسين التنسيق في مركز جديد لاعتراض المسيّرات؟ يشك في ذلك أعضاء حزب الخضر، المعارض بالبرلمان الألماني. وهم يعتبرون تحديد المسؤوليات بوضوح أمرًا لا غنى عنه في اعتراض المسيّرات. “يجب على الولايات القيام ببعض الأشياء، ويجب على الحكومة الاتحادية القيام بشيء ما أيضًا”، كما وصفت الوضع الحالي سياسية حزب الخضر إيرين ميهاليك لـDW. وأضافت أنَّ المسؤولية يتم نقلها بين الطرفين.
وتشير إيرين ميهاليك، وهي شرطية مدربة، إلى ما يعتبرمن وجه نظرها فرقًا كبيرًا بين الخطر المجرد والخطر الملموس: “في الحالة الأولى يوجد وقت لجمع المعلومات وتقييمها. وفي الحالة الثانية يجب أن يتم خلال دقائق تحديد ما يجب فعله ضد مسيّرة يمكن أن تكون شديدة الخطورة”، كما قالت خبيرة السياسة الأمنية. “في النهاية يحدث شيء ما، ثم يتم تعيين لجنة تحقيق، ولا أحد يريد تحمّل المسؤولية”، تضيف ميهاليك.
ألمانيا غير مستعدة جيدًا لحالات الطوارئ
فهل تتمتع ألمانيا بوضع جيد للدفاع ضد الطائرات المسيّرة في ظل هذه التطورات الجديدة؟ يشكك خبير الطائرات المسيّرة غرالد ويسل في ذلك أيضاً. ويقول رئيس جمعية “UAV DACH”، وهي جمعية أوروبية رئيسية للطيران بدون طيار: “ما زلنا بعيدين عن الكشف والدفاع الفعالين حقاً”.
وبحسب رأيه لا يمكن تحقيق الأمن إلا عندما تتم مراقبة المجال الجوي السفلي بشكل شامل ضمن صورة موحدة للوضع الجوي وهذا غير متوفر حاليًا. وحول ذلك قال لـDW: “إذا لم تكن لدينا صورة موحدة للوضع الجوي، فلن أستطيع التمييز بين الجيد والسيئ. وهذا هو مصدر قلقنا الأكبر”. وهو يقصد المجال الجوي على ارتفاع يصل إلى نحو 250 مترًا، والذي تحلق فيه المسيّرات. ويضيف أنَّ ألمانيا بحاجة إلى نظام رادار شامل هنا أيضًا، بالتوازي مع المجال الجوي العلوي.
وبالإضافة إلى ذلك يجب بحسب قوله إيجاد نظام تعريف إلكتروني إلزامي لجميع المسيّرات، يسمى تقنيًا باسم “ADS-L”. وهكذا يمكن تحديد هوية جميع المسيّرات التي تظهر فجأة فوق حشود الناس أو المنشآت الصناعية أو المطارات.
مئات آلاف المسيّرات الخاصة في ألمانيا
تحليق المسيّرات لا يتعلق دائمًا بالتجسس أو التخريب. فشراء طائرة مسيّرة عبر الإنترنت أو من متجر إلكترونيات والطيران بها يعتبر هواية شائعة في ألمانيا. لقد أحصى في عام 2023 موقع الاحصاءات “Statista” وجود أكثر من 350 ألف طائرة مسيّرة قيد استخدام الخاص. ولا يوجد في أية دولة أوروبية أخرى عدد أكبر من ذلك.
ورغم أنَّ استخدام المسيّرات في ألمانيا يخضع للعديد من اللوائح، إلا أنّ كثيرًا ما يتم تجاهلها، كما ظهر في حالة سوق عيد الميلاد في نورنبرغ. ولذلك تطالب الجمعية الأوروبية للطيران بدون طيار “UAV DACH”، التي يقع مقرها الرئيسي في ألمانيا، بفرض قيود صارمة على استخدام الطائرات المسيّرة المخصصة للهواة، بما في ذلك حصر استخدامها في مهابط الطائرات النموذجية والممتلكات الخاصة وبارتفاع يبلغ أقصاه 50 مترًا.
وعلى الرغم من أن تحليق مسيّرات الهواة لمسافات تتجاوز مدى الرؤية المباشرة محظور في ألمانيا، إلا أن ذلك ممكن بسهولة، يقول غرالد فيسل. ويضيف: “صدقوني، لا يمكن تحديد موقع الشخص الذي يتحكم بالمسيرة من خلال شاشة عرض وهاتفه المحمول، إلا من خلال بذل جهد تقني كبير”.
أعده للعربية: رائد الباش/ تحرير: صلاح شرارة
Source link



