
في خطوة اقتصادية أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط التجارية والإقليمية، أعلنت وزارة الصناعة والتجارة السودانية عن إعادة فرض الرسوم الجمركية على السلع والبضائع المستوردة من دول السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا “الكوميسا”، وذلك اعتباراً من الأول من نوفمبر 2025، في تحول مفاجئ عن سياسة الإعفاءات التي كانت سارية منذ سنوات.
دوافع القرار
المحلل الاقتصادي الدكتور هيثم محمد فتحي أوضح في تصريحات لراديو دبنقا أن القرار جاء نتيجة ضغوط اقتصادية متزايدة دفعت الحكومة السودانية إلى مراجعة سياساتها الجمركية، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تمثل خرقاً مباشراً لاتفاقية الكوميسا، وقد تفتح الباب أمام تقديم شكاوى رسمية من قبل بعض الدول الأعضاء ضد السودان. وأكد فتحي أن السودان يعاني حالياً من تراجع حاد في الإيرادات الجمركية، وهي من المصادر الأساسية لتمويل الميزانية العامة، وأن الإعفاءات السابقة حرمت خزينة الدولة من دخل مهم في ظل أزمة النقد الأجنبي وتفاقم التضخم والعجز المالي.
حماية الإنتاج
من بين الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ القرار، بحسب فتحي، الرغبة في حماية الصناعة الوطنية والإنتاج الزراعي المحلي، حيث كانت السلع القادمة من دول مثل كينيا وأوغندا تدخل السوق السوداني بأسعار منخفضة نتيجة غياب الرسوم الجمركية، ما أضعف قدرة المنتجات المحلية على المنافسة. وأشار إلى أن قطاعات إنتاجية متعددة تأثرت سلباً بسبب هذه المنافسة غير العادلة، وأن القرار الجديد يهدف إلى إعادة التوازن لصالح المنتج السوداني، الذي تعرض لضغوط كبيرة في السنوات الأخيرة.
خلل تجاري
فتحى أشار أيضاً إلى أن الميزان التجاري بين السودان ودول الكوميسا يعاني من اختلال واضح، حيث تفوق واردات السودان من هذه الدول صادراته إليها، والتي تقتصر على منتجات مثل الصمغ العربي والسمسم والثروة الحيوانية. هذا الخلل التجاري، بحسب فتحي، كان من بين العوامل التي دفعت الحكومة إلى إعادة النظر في الاتفاقية، خاصة وأن السودان لم يحقق مكاسب ملموسة من عضويته في الكوميسا منذ انضمامه في عام 1990.
آثار مزدوجة
القرار، وفقاً لتحليل فتحي، يحمل آثاراً مزدوجة؛ فمن جهة، سيساهم في تعزيز الإيرادات الجمركية وحماية القطاعات الإنتاجية المحلية، وقد يفتح المجال أمام تطوير المنتجات الوطنية وتحسين قابليتها للتصدير. ومن جهة أخرى، فإن إعادة فرض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من دول الكوميسا سيؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع في السوق المحلي، ما سينعكس سلباً على المستهلك السوداني ويزيد من أعباء المعيشة، خاصة في ظل التضخم المرتفع الذي تعاني منه البلاد.
إشكاليات إقليمية
رغم تأكيد الحكومة السودانية أن القرار تم بالتنسيق مع الأمانة العامة للكوميسا، إلا أن فتحي حذر من أن هذه الخطوة قد تثير إشكاليات مستقبلية تتعلق بالتكامل الاقتصادي بين السودان والدول الأعضاء في المنظمة. وأشار إلى أن القرار قد يضعف مصداقية الكوميسا كمشروع إقليمي للتكامل، ويعكس التباين بين الالتزامات الإقليمية طويلة المدى والضرورات الاقتصادية قصيرة المدى التي تواجهها الحكومة السودانية في الوقت الراهن.
انعكاسات مستقبلية
في تقييمه النهائي، اعتبر فتحي أن القرار يبدو منطقياً من منظور داخلي سوداني بالنظر إلى الظروف الاقتصادية الحالية، لكنه قد يحمل تداعيات سلبية على المدى المتوسط والطويل، خاصة فيما يتعلق بعلاقات السودان التجارية مع دول الكوميسا، وقد يشكل عقبة أمام جهود التكامل الاقتصادي الإفريقي التي تسعى إليها العديد من الدول في القارة. وأعرب عن أمله في أن يتم وضع خطة استراتيجية واضحة لتحويل القرار إلى فرصة لتعزيز الإنتاج المحلي، وتنويع مصادر الإيرادات، وتحسين الميزان التجاري، وجذب الاستثمارات الوطنية.
خلفية الاتفاقية
تأسست اتفاقية الكوميسا في عام 1981 كمنطقة تجارة تفضيلية تهدف إلى إقامة منطقة تجارة حرة بين الدول الأعضاء، وتطورت لاحقاً لتصبح اتحاداً جمركياً ثم سوقاً مشتركة، واتخذت شكلها الحالي في ديسمبر 1994. السودان انضم إلى الاتفاقية في أغسطس 1990، وتضم الكوميسا حالياً نحو 21 دولة أفريقية. ومن بين أبرز المشروعات التي نفذتها المنظمة في السودان مشروع التكامل الإقليمي الممول من الاتحاد الأوروبي في سبتمبر 2016.
تقييم العضوية
يرى عدد من المراقبين والخبراء الاقتصاديين أن السودان لم يحقق نجاحاً يُذكر من عضويته في الكوميسا، مشيرين إلى أن البلاد ظلت تستورد من الدول الأعضاء دون أن تحقق مكاسب تصديرية ملموسة، ما أدى إلى إغراق الأسواق المحلية بسلع لا حاجة لها، وتسبب في تفاقم العجز التجاري. هذا التقييم يعزز من وجهة النظر التي ترى في القرار الأخير محاولة لإعادة ضبط العلاقة التجارية بين السودان والكوميسا، بما يخدم المصالح الاقتصادية الوطنية في ظل التحديات الراهنة.
Source link
 
				

