
في تطور عسكري وسياسي بالغ التأثير، مثّل سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع نقطة تحول مفصلية في مسار الحرب السودانية، تجاوزت كونها مجرد خسارة ميدانية إلى كونها لحظة فارقة تعيد تشكيل موازين القوى وتفتح الباب أمام سيناريوهات معقدة تتعلق بوحدة الدولة ومستقبلها السياسي.
رمزية الفاشر
لا يمكن التعامل مع سقوط مدينة الفاشر على أنه مجرد تطور عسكري عابر ضمن عمليات الكر والفر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل يُنظر إليه من قبل العديد من المحللين باعتباره انعطافة حادة في مسار الحرب المستمرة منذ أكثر من ثمانية عشر شهرًا. الفاشر ليست فقط عاصمة ولاية شمال دارفور، بل تمثل مركزًا تاريخيًا وثقافيًا وسياسيًا لإقليم دارفور بأكمله. وقد شكّل صمودها لأكثر من عام ونصف في وجه الحصار العسكري دليلاً على أهميتها الاستراتيجية، ورمزًا لفشل الدولة المركزية في حماية مراكزها الحيوية. هذا السقوط أعاد طرح أسئلة جوهرية حول وحدة السودان، وإعادة توزيع النفوذ، واحتمالات نشوء نظام جديد تُحدده فوهات البنادق، كما تعكسه خطابات الطرفين المتنازعين.
سيناريو ليبي
الصحافية شمائل النور، المتابعة لتطورات الحرب، اعتبرت أن سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر، وبالتالي على كامل إقليم دارفور، تمنحها موقعًا تفاوضيًا أقوى يعكس ميزان القوة الجديد على الأرض. وحذّرت من دخول السودان في حرب استنزاف طويلة، قد تقود إلى تقسيم البلاد وفق سيناريو مشابه لما حدث في ليبيا. هذا الطرح يتقاطع مع رؤية الباحثة المصرية أماني الطويل، التي وصفت سقوط الفاشر بأنه تحول حاسم في الحرب السودانية، لا يقتصر على رمزية المدينة أو موقعها الجغرافي، بل يعكس تغيرًا عميقًا في موازين القوى، ويشير إلى تفكك الدولة المركزية وتحول السودان إلى أقاليم متنازعة.
خطاب البرهان
في أول رد فعل رسمي بعد سقوط المدينة، ظهر قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في خطاب جماهيري يوم الاثنين، بعد ثلاثة أيام من الحدث، ليؤكد أن قواته تمثل درع الدولة وممثلة الشعب. وأوضح أن الانسحاب من الفاشر جاء لتجنب الدمار والقتل الممنهج للمدنيين، مشددًا على أن المعركة لم تنتهِ، بل هي مرحلة من الحرب ستُحسم لصالح الشعب السوداني. البرهان أعاد وصف قوات الدعم السريع بأنها ميليشيا مرتزقة، واتهمها بارتكاب جرائم أمام أنظار العالم، متوعدًا بالقصاص وتطهير الأرض. حمل الخطاب نبرة دينية وعسكرية، استدعى فيها قيم الفداء والصبر، لكنه تضمن أيضًا اعترافًا ضمنيًا بخلل ميداني أدى إلى فقدان السيطرة على آخر معاقل الجيش في غرب البلاد.
لغة حميدتي
في المقابل، سعى محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، في خطابه يوم الأربعاء، إلى ترسيخ صورة المنتصر الواثق، مؤكدًا أن تحرير الفاشر لا يعني تقسيم السودان، بل يمثل تحولًا نحو وحدته. وأكد أن قواته لا تسعى للسلطة بل للسلام، وأن مرحلة الحرب انتهت لتبدأ مرحلة السلم. حميدتي ركز على تقديم قواته كقوة منضبطة تلتزم بأخلاقيات الحرب، نافيًا الاتهامات بارتكاب فظائع، ومتوعدًا بمحاسبة أي تجاوزات. كما دعا المنظمات الإنسانية إلى العودة لإغاثة المواطنين، وأعلن تأمين المدينة عبر الشرطة الفيدرالية. في خطابه، هاجم ضباط الجيش واصفًا إياهم بأنهم أبناء “كلية العنصرية والكيزان”، محمّلًا الحركة الإسلامية مسؤولية إشعال الحرب، في سردية تتأرجح بين البحث عن الشرعية وتقديم نفسه كقائد دولة لا مجرد قائد ميداني.
دعوة للجهاد
على الجانب الآخر، حاول علي أحمد كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، تحويل المعركة من صراع سياسي إلى حرب دينية، عبر خطاب بثته منصات الحركة بعد سقوط الفاشر. خاطب فيه من وصفهم بالشهداء، داعيًا إلى الثأر من “الميليشيات السفاكة ودولة الشر”، مؤكدًا أن الحركة الإسلامية ستظل سدًا منيعًا خلف القوات المسلحة. أعاد كرتي الحرب إلى سياقها العقائدي القديم، معتبرًا الجيش جند الكرامة وحامي العقيدة، في مواجهة متآمرين على الإسلام، وهو ما أعاد إلى الأذهان لغة الجهاد السياسي التي سادت خلال الحرب مع جنوب السودان، والتي استخدمتها الحركة الإسلامية لتعبئة الجماهير تحت شعارات دينية.
خطر التفكك
المحلل السياسي محمد لطيف قدّم رؤية مغايرة، استبعد فيها سيناريو التقسيم إلى دولتين، لكنه حذّر من تحول السودان إلى كانتونات مسلحة، نتيجة انتشار السلاح بين الجميع. ورأى أن قوات الدعم السريع كانت أكثر ميلًا لإنهاء الحرب، بينما ظل الجيش يعرقل أي هدنة، ما يجعل التمسك بوحدة السودان في خطاب الجيش مجرد استهلاك سياسي. هذا الطرح يعكس فجوة عميقة بين خطاب الدولة الدينية الذي يقدّس الحرب، والتحليل السياسي الذي يرى في استمرارها خطرًا وجوديًا يهدد بتفكك الدولة.
انهيار الدولة
الصحافي المصري إبراهيم عيسى رسم صورة قاتمة لمستقبل السودان، معتبرًا أن سقوط الفاشر ليس إلا محطة في طريق تفكك الدولة، مشيرًا إلى أن عوامل التمزق قائمة: الإسلام السياسي، التنوع القبلي، والاستبداد. ورأى أن ما يحدث في دارفور هو امتداد لسياسات الإخوان المسلمين الذين صنعوا الجنجويد وشرعنوا وجودهم كقوات دعم سريع. وأضاف أن لا فرق بين البرهان وحميدتي سوى موقع السلطة، فكلاهما نتاج لنظام إسلامي عسكري دمّر السودان.
مشروع بديل
من داخل تحالف تأسيس، قدّم المحامي والقيادي حاتم إلياس رؤية حول التوازنات الجديدة بعد سقوط الفاشر، معتبرًا أن الجيش يعاني من ضعف هيكلي نتيجة تخريبه من قبل نظام الإنقاذ، الذي حوله إلى مؤسسة حزبية تابعة للحركة الإسلامية. ورأى أن ما يحدث قد يفتح الباب أمام سيناريو أفريقي للتغيير، كما حدث في تشاد وأوغندا وإثيوبيا، حين وصلت حركات مسلحة إلى السلطة بالقوة. وحذّر من نفاد صبر المجتمع الدولي، مشيرًا إلى أن العالم لن ينتظر البرهان طويلًا، في ظل ارتباطه بأجندة الإسلاميين.
حرب استنزاف
الباحثة أماني الطويل رأت أن سقوط الفاشر نقل الصراع إلى حرب استنزاف طويلة، لم تعد السيطرة المكانية فيها معيارًا للقوة، بل أصبحت القدرة على الحركة والمعلومة هي الأهم. هذا التحليل يتقاطع مع رؤية الخبير العسكري عمر أرباب، الذي استبعد سيطرة الدعم السريع على كامل ولاية شمال كردفان، لكنه رأى أن السيطرة على مدينة الأبيض ستكون مكلفة في المرحلة الحالية. وأوضح أن خطوط الإمداد بين النيل الأبيض وشمال كردفان لا تزال متصلة، وقطعها شرط أساسي لتقدم الدعم السريع.
تهديد كردفان
أرباب توقع أن تبدأ قوات الدعم السريع بمحاصرة مدينة الأبيض أو مهاجمتها بالمسيّرات والضربات الخاطفة، لزعزعة استقرارها ومنعها من تقديم الإسناد للقوات الأخرى. كما رجّح تكثيف الضغوط على مدن بابنوسة والدلنج وكادوقلي في جنوب وغرب كردفان، لبسط السيطرة عليها تدريجيًا. ورغم استبعاده لتوجه الدعم السريع شرقًا نحو الخرطوم، أكد أن التوسع في تلك المناطق سيكون مكلفًا بسبب ابتعاد القوات عن خطوط الإمداد، ما يضعف قدرتها على الانتشار.
معركة مفتوحة
من جهة أخرى، لم يستبعد أرباب أن يستغل الجيش وجود قوات مشتركة في الصحراء الشمالية لتوجيه ضربات خاطفة ضد مناطق سيطرة الدعم السريع، بهدف زيادة الضغط ومنع التوسع شرقًا أو شمالًا. ورأى أن الطرفين يبحثان عن موقف تفاوضي أفضل، لكن سقوف الجيش التفاوضية أعلى، ما يجعله غير مستعد للدخول في مفاوضات في ظل الوضع الحالي. وأشار إلى أن الجيش رفض التفاوض في ظروف ميدانية أفضل، لذلك لا يُتوقع أن يوافق عليه بعد سقوط الفاشر.
أرباب استبعد حدوث تدخل عسكري خارجي مباشر لصالح أي من الطرفين، لكنه توقع دعمًا لوجستيًا أو سياسيًا، مشيرًا إلى أن الاجتماعات الجارية في دول الجوار تؤكد ذلك. لكنه حذّر من أن تقاطع تحالفات الجيش قد يكون عائقًا أمام دعمه، لأن دعم بعض التحالفات قد يُضعف أخرى، ما يفتح الباب أمام أطراف جديدة لدعم قوات الدعم السريع، ويزيد من تعقيد المشهد.
حرب بلا نهاية
وهكذا، يبدو أن السودان يقف على مفترق طرق، بين من يرى في سقوط الفاشر نهاية للدولة القديمة وبداية لتأسيس دولة جديدة، ومن يرى في استمرار الحرب شرعية عقائدية. في ظل تعقّد المشهد العسكري والسياسي، بات سقوط مدينة الفاشر نقطة انطلاق لحرب مفتوحة لا تملك أطرافها القدرة على الحسم، ولا تلوح في الأفق نهاية قريبة لها. فالمعركة لم تعد بين جيش نظامي وميليشيا متمردة، بل تحولت إلى صراع شامل بين رؤيتين متناقضتين لمستقبل السودان: الأولى تسعى إلى إعادة إنتاج الدولة المركزية تحت مظلة المؤسسة العسكرية التقليدية، والثانية تطرح مشروعًا مغايرًا يقوم على تفكيك تلك المنظومة وبناء دولة جديدة من رحم الحرب.
هذا التحول يعكسه بوضوح الخطاب السياسي المتبادل بين الطرفين، حيث يتحدث البرهان بلغة الدفاع عن وحدة البلاد، بينما يقدم حميدتي نفسه كقائد لمرحلة انتقالية نحو نظام مدني ديمقراطي. وبينهما، تتداخل دعوات الجهاد العقائدي مع تحليلات سياسية تحذر من تفكك الدولة إلى كانتونات مسلحة، في ظل غياب أي توافق على وقف إطلاق النار أو الدخول في مفاوضات جادة.
ومع استمرار الضربات الجوية، وتوسع استخدام الطائرات المسيّرة، وتزايد الضغوط على المدن المحاصرة، يبدو أن السودان يتجه نحو مرحلة طويلة من حرب الاستنزاف، تتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق الهوية الوطنية. فالفاشر لم تسقط كمدينة فقط، بل سقطت كرمز لوحدة الدولة، وفتحت الباب أمام إعادة رسم خريطة السودان السياسية والعسكرية، وفقًا لموازين القوة لا لمبادئ الدستور.
وهكذا، تتقاطع الرؤى بين من يرى في الحرب وسيلة لحماية الوطن، ومن يراها طريقًا لبناء وطن جديد، لكن ما يجمعهم جميعًا هو أن السودان، كما عرفه العالم، لن يعود كما كان.
Source link



